ثقافة "لكلاش" .. من عهد جرير والفرزدق إلى زمن "الراب" و"الإلترا"
لست من هواة فن الراب ولا من متابعيه، ليس لموقف مبدئي من مادته ولا من ممارسيه، فمهما كانت انطباعاتنا حول هذا النوع من الموسيقى والغناء إلا أنه يبقى صنفا فنيا له أصوله وأعرافه وجمهوره وعشاقه، بقدر ارتباط ذلك بالأذواق والاختيارات، فلا أجدني أميل إلى هذا النوع ولا تطرب أذني بسماعه.
لكن ما أثارني مؤخرا هو الاهتمام الذي لقيته ظاهرة تبادل الاتهامات بين رواد هذا النوع من الموسيقى، أو ما يعرف بشكل أدق بالتعبير الدارج بـ"لكلاش"، نسبة إلى بندقية الكلاشنكوف الروسية ذات المفعول القاتل، والمقصود بها ما يوجهه الواحد من هؤلاء من رسائل قاسية ولاذعة إلى خصومه أو منافسيه، سواء عبر الكلمات أو عبر الرسوم والصور.
ليست ثقافة "الكلاش" حكرا على فناني الراب للإنصاف، فجماهير "الإيلترا" بكرة القدم تعتبرها من صميم عاداتها وأعرافها. رأينا ما كان بين جماهير الوداد والرجاء من رسائل شديدة بلغ حد صرف مبالغ مالية مهمة لإعداد "تيفوات" يشبه فيها الفريق الخصم بنوع من الحيوان إمعانا في الاحتقار والإهانة.
نظرة سريعة على حسابات الفنانين على "الإنستغرام" ليس في المغرب فقط، بل في كل المنطقة، ستقف بنا على عشرات الحروب والرسائل الصريحة والضمنية الموجهة إلى الخصوم والمنافسين.
أكثر من ذلك، حتى السياسيون، وهم من نخبة المجتمع، وجدوا في شعبوية "الكلاشات" وسيلة نافعة لاستقطاب مزيد من المتعاطفين والمنخرطين.
ليس ما ينبغي التوقف عنده هو تمثلات هذه الظاهرة فقط، ولكن ما تجده هذه المناوشات من احتفاء واهتمام ومتابعة، إذ تحتل "فيديوات لكلاش" مراتب الصدارة من حيث عدد المشاهدات. "التوندونس" المغربي على "يوتوب" يشهد احتلالا لهذا النوع من الرسائل والرسائل المضادة، ووسائل الإعلام تتهافت على متابعة آخر أخبار "لكلاشات" رفعا لنسبة زوار الموقع ومرتاديه، والبرامج الحوارية تتسابق لاستضافة البارزين في هذا الباب، حتى أصبح "لكلاش" الوسيلة المثلى لدى الكثيرين للرفع من نسب الإعجاب والمتابعة على صفحات التواصل الاجتماعي.
حتى النخبة المثقفة تتابع ما يقع من تنابز باحتفاء واهتمام، وتترقب آخر الإصدارات بخصوص ذلك بلهفة وإقبال، كما عبرت عن ذلك منصات التواصل الاجتماعي، فضلا عن الأطفال ممن يستهويهم هذا العنف في الخطاب وهذا التراشق المستمر.
صحيح أن مهاجمة الغير والاحتفاء بذلك من صميم ثقافاتنا وتاريخنا، وجزء أصيل من تراثنا الأدبي، فقد كان سوق عكاظ قديما محجا للعرب، حيث يجتمعون كل سنة، ويعقدون مجالس للشعر للتفاخر والمديح وللهجاء أيضا. كان الناس يجتمعون حول شاعرين يهجو أحدهما الآخر. وكان الهجاء سلاحا فعالا وقويا في ظل الصراعات التي كانت تنشأ بين القبائل والأشخاص، وكان الناس يحذرونه ويخافونه خوفهم من السيوف والرماح، بل أشد من ذلك وأعظم، لما كان للهجاء من تأثير على الرأي العام، بل التاريخ أحيانا.
وقد وعى بنو أمية بهذا التأثير فنظموا له المجالس بحضرة الخليفة، فكان ما يعرف بالنقائض بين شعراء بني أمية الثلاثة: جرير والفرزدق والأخطل، الذين اعتبرت بعض أبياتهم من أشد ما قيل في هذا الباب، كقول جرير في حق قبيلة نمير: فغض الطرف من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا
هي إذن ثقافة قديمة في تراثنا وأدبياتنا، لكنها تختلف عما نراه اليوم، فيومئذ كان الأمر يستجيب لطبيعة الحياة العربية، حيث كانت التجمعات قائمة على القبلية والعصبية، فكان التفاخر والهجاء إفرازا طبيعيا لدينامية المجتمع وطريقة تشكله، والعصبية من شأنها توليد الكره والبغضاء والغضب، وغيرها من المعاني التي تناولها شعر الهجاء، لكن مجتمعات اليوم المفروض فيها أنها تجاوزت منطق النعرات القبلية، والعصبيات الإثنية والعرقية والجنسية، نحو مجتمعات مدنية ودول حديثة تبنى على التعايش والتسامح وقبول الآخر.
وهو ما لا مكان فيه لهذه الاصطفافات والتناحر والتنابز والعنف اللفظي. لكن مشكلتنا أننا نتخبط بين الماضي والحاضر، دون حسم في شكل ما نريده من مجتمع، فهذا الاحتفاء بمثل هذه المناوشات حجة على أن الذهنية المجتمعية تستهويها هذه الثقافة القبلية، وهو ما يعني أن عقولنا لازالت تعيش عصر القبيلة.
فارق آخر بين ما كان عليه هجاء الأمس وهجاء اليوم، هو أن هجاء العرب كان بأدوات فنية راقية جدا، ولغة أدبية تخلب الألباب وتطرب الآذان، ولذلك أصبحت رغم عنف مضمونها من الخالدات التي لازالت تلقن للأجيال وتقام حولها الأبحاث والدراسات، أما هجاء اليوم فمهما احترمت سياقه وظروف نشأته والغرض منه فإنه لا يعبر عن ذوق لغوي راق ولا يشكل في نظري قيمة مضافة للإنتاج الثقافي والأدبي.
الأخطر من هذا كله، حين يصل الأمر إلى انتهاك الأعراض ومحاولة الانتقام من الخصوم بتوظيف الأسرار الخاصة، بل قد يتحول الأمر إلى تجارة وابتزاز وتهديد وخراب للبيوت وتشتيت للأسر والعائلات.
وسط كل هذا الضجيج وردود الفعل، آخر صوت يمكن أن تسمعه للأسف هو صوت العقل والوعي، ونداء التسامح والتعايش والقبول بالمختلف.
تعليقات
إرسال تعليق